ليست الكتابة فعلًا فرديًا، بل هي نتاج شبكة من العلاقات: من يملك الوقت؟ من يملك اللغة؟ من يملك المنصة؟ من يُسمح له بأن يُسمع؟ ومن يُطلب منه أن يصمت؟ في هذا المقال، نحاول تفكيك الكتابة بوصفها ممارسة رمزية، لكنها مشروطة، مقاومة أحيانًا، ومُخدّمة أحيانًا أخرى.
❖ الكتابة ليست حرة
يُقال إن الكتابة حرية، لكنها غالبًا ما تكون امتيازًا. فلكي تكتب، لا يكفي أن "تشعر"، بل يجب أن تمتلك أدوات التعبير، الوقت، اللغة، والشرعية. هذه الأدوات لا تُمنح للجميع بالتساوي. فالمجتمعات لا توزّع القدرة على الكتابة كما توزّع الهواء، بل كما توزّع السلطة.
الكاتب لا يكتب لأنه يريد فقط، بل لأن شروطًا مادية واجتماعية تتيح له أو تدفعه للكتابة. من يملك القدرة على التأمل، على العزلة، على النشر؟ من يملك اللغة التي تُعتبر "راقية" أو "مقبولة"؟ من يُمنح شرعية التعبير، ومن يُقصى إلى الهامش؟
❖ الكتابة كسلعة
في زمن السوق، تتحول الكتابة إلى منتج. تُقاس قيمتها بعدد النسخ المباعة، بعدد الإعجابات، بعدد المتابعين. يُطلب من الكاتب أن يُرضي، أن يُبهر، أن يُنتج باستمرار. يُصبح النص خاضعًا لمنطق العرض والطلب، لا لمنطق التأمل أو المقاومة.
الكاتب المستقل، الذي لا ينتمي إلى مؤسسة أو منصة، يُجبر غالبًا على التنازل عن رؤيته لتلبية الطلب السوقي. يُطلب منه أن يُبسّط، أن يُجمّل، أن يُرضي. وهكذا، تتحول الكتابة من فعل رمزي إلى عمل مأجور، من شهادة إلى إعلان، من مقاومة إلى ترفيه.
❖ الكتابة كأداة للسلطة
ليست الكتابة محايدة. فهي تُستخدم لترسيخ السلطة، كما تُستخدم لمقاومتها. تُستخدم لتجميل الواقع، كما تُستخدم لتفكيكه. تُستخدم لإخفاء التناقضات، كما تُستخدم لكشفها.
في كثير من الأحيان، تُستخدم الكتابة لتبرير النظام القائم، لتصويره كـ"طبيعي"، كـ"أبدي". تُستخدم لتجميل الاستغلال، لتبرير الفقر، لتصوير الألم كـ"تجربة روحية". تُستخدم لتخدير الوعي، لا لتحفيزه.
لكن في لحظات أخرى، تُصبح الكتابة أداة مقاومة. تُصبح وسيلة لكشف التناقضات، لإعادة تعريف المفاهيم، لإعطاء الصوت لمن لا صوت لهم. تُصبح الكتابة شهادة، لا زخرفة. تُصبح فعلًا سياسيًا، لا مجرد تعبير ذاتي.
❖ من يكتب؟ ومن يُكتب عنه؟
في كثير من الأحيان، يُكتب عن المهمّشين، لا بواسطة المهمّشين. يُكتب عن الفقراء، لا بواسطة الفقراء. يُكتب عن النساء، لا بواسطة النساء. يُكتب عن الجنوب، لا بواسطة الجنوب. وهكذا، تُصبح الكتابة أداة لإعادة إنتاج التراتب، لا لتفكيكه.
لكن حين يكتب المهمّشون عن أنفسهم، تُصبح الكتابة فعلًا ثوريًا. تُصبح وسيلة لاستعادة الصوت، لاستعادة الذاكرة، لاستعادة المعنى. تُصبح الكتابة شهادة على الألم، لا تأملًا فيه. تُصبح فعلًا جماعيًا، لا فرديًا.
❖ الكتابة والذاكرة
الكتابة ليست فقط تعبيرًا، بل هي أرشفة. هي محاولة لتثبيت اللحظة، لتخليدها، لتمنيعها ضد النسيان. لكنها أيضًا انتقاء: ما يُكتب يُخلّد، وما لا يُكتب يُنسى. وهكذا، تُصبح الكتابة أداة للذاكرة، لكنها أيضًا أداة للنسيان.
من يُكتب عنه يُخلّد، ومن يُقصى يُنسى. تُصبح الكتابة أداة لإعادة تشكيل التاريخ، لا فقط لتوثيقه. تُصبح وسيلة لإعادة تعريف البطولة، الألم، الحب، المقاومة. تُصبح الكتابة معركة رمزية حول من يستحق أن يُذكر، ومن يُطلب منه أن يختفي.
❖ الكتابة كطقس
رغم كل ما سبق، تظل الكتابة فعلًا طقسيًا. لحظة الكتابة هي لحظة انسحاب من العالم، لكنها أيضًا لحظة إعادة تشكيله. هي لحظة تأمل، لكنها أيضًا لحظة مواجهة. هي لحظة عزلة، لكنها أيضًا لحظة تواصل.
الكاتب، حين يكتب، لا يصف فقط، بل يُعيد تشكيل المعنى. لا يُعبّر فقط، بل يُعيد تعريف المفاهيم. لا يُسجّل فقط، بل يُعيد بناء الذاكرة. وهكذا، تُصبح الكتابة طقسًا رمزيًا، لا مجرد ممارسة تقنية.
❖ الكتابة كأداة للوعي
في النهاية، الكتابة ليست فقط وسيلة للتعبير، بل وسيلة لإعادة تشكيل الوعي. تُعيد تعريف المفاهيم: "الحرية"، "النجاح"، "الهوية"، "العدالة". تُعيد بناء اللغة، تُعيد بناء الذات، تُعيد بناء الجماعة.
حين تُكتب الكلمات من موقع الألم، تُصبح شهادة. حين تُكتب من موقع المقاومة، تُصبح فعلًا. حين تُكتب من موقع الحب، تُصبح طقسًا. وحين تُكتب من موقع السوق، تُصبح إعلانًا.
❖ هل نكتب لنُغيّر أم لنُخدَم؟
في ضوء كل ما سبق، الكتابة ليست بريئة. هي معركة رمزية داخل بنى السلطة، السوق، والذاكرة. أنت، حين تكتب، إما أن تُعيد إنتاج النظام، أو تُقاومه. إما أن تُخدَم، أو تُغيّر.
هل تكتب لتُجمّل الواقع، أم لتُفكّكه؟
هل تُنشد المعنى، أم تُعيد تشكيله؟
هل تُنشد الحرية، أم تُعرّي قيودها؟
اختر موقعك في هذه المعركة الرمزية.
فالكلمات، في النهاية، ليست زخرفة.
إنها شهادة، أو صمت.