صورة المحرر

إدوارد كورنيليو

محرر المقال | قصص

المعلمة والشاي
إدوارد كورنيليو 244 مشاهدة
إعلان
مساحة إعلانية - 728 × 90 بكسل

لم تستطع أن تصدق عينيها. بعد أشهر من الانتظار والتضحية، كل ما حصلت عليه هو شيك بنكي لا يستحق الورق الذي كتب عليه. كانت تنظر إليه بنظرة محتقرة، كأنه قطعة من القمامة. كان هذا مرتبها الذي تأخر لشهور، والذي كانت تعول عليه لدفع إيجار المنزل وشراء الطعام والملابس لأطفالها الثلاثة. كانت تعمل معلمة في مدرسة حكومية في "جبرونا"، وهو  حي  مزدحم  وفقير في جوبا. كانت تحب تدريس الطلاب وتشجيعهم على التعلم والتطور، لكنها كانت تعاني من ظروف العمل السيئة والرواتب المتأخرة والمنخفضة. كانت تربح 20 دولار في الشهر، وهو مبلغ لا يكفي لتغطية احتياجاتها الأساسية. 

في نهاية الشهر، بعد انتهاء الدوام، ذهبت إلى مكتب المدير لاستلام مرتبها. ولكنها فوجئت بأنه لا يوجد نقود، وأنها ستحصل على شيك بنكي بدلا من ذلك. قال لها المدير بابتسامة مصطنعة: "لا تقلقي، يا أستاذة. هذا الشيك صالح لمدة شهر، ويمكنك صرفه في أي بنك تريدين. هذه هي الطريقة الجديدة التي اعتمدها الوزارة لتسهيل عملية الدفع. أنا متأكد من أنك ستفهمين الوضع وستتحملين بعض الصعوبات من أجل مصلحة التعليم والوطن". 

لم تصدق كلامه، وشعرت بالغضب والإحباط. كيف ستعيش بهذا الشيك الورقي؟ كيف ستدفع للبقال والكهرباء والماء؟ كيف ستواجه أطفالها الجياع والبرد؟ كانت تعرف أن البنوك مزدحمة ومتعطلة، وأنها ستضطر إلى الانتظار لساعات طويلة في طوابير طويلة لصرف الشيك، إن وجدت بنكا يقبله. كانت تعرف أن هذا الشيك لا قيمة له، وأنه مجرد وسيلة لتأجيل مشكلة الرواتب المتأخرة والمنخفضة. 

قررت أن تتخذ قرارا حاسما. قررت أن تترك العمل كمعلمة، وأن تبحث عن عمل آخر يوفر لها دخلا أفضل وأسرع. قررت أن تبيع الشاي في سوق "كونجو كونجو "،حيث تجتمع الحشود من الناس الباحثين عن البضائع والخدمات والترفيه. كانت تعرف أن هذا العمل ليس سهلا أو مريحا، وأنه يتطلب الكثير من الجهد والتحمل والمهارة. لكنها كانت مستعدة للتضحية بكرامتها وراحتها من أجل إطعام أسرتها وتعليم أطفالها. 

اشترت بعض الأدوات اللازمة لصنع الشاي: إبريق وفناجين وملعقة وسكر وحليب وشاي. اشترت أيضا بعض الخبز والجبن والبسكويت لتقديمها مع الشاي. اختارت مكانا في السوق، بالقرب من محل لبيع الهواتف المحمولة. وضعت طاولة صغيرة وكرسيا وشمسية لحمايتها من الشمس والمطر. بدأت في تحضير الشاي، وهي تنادي على الزبائن بصوت عال ومبهج: "تفضلوا بالشاي الساخن واللذيذ. شاي بخمسائة جنيه فقط. شاي مع الخبز والجبن والبسكويت بالف جنيه فقط. شاي ينشط الجسم والروح. شاي يسعد القلب والعقل". 

كانت تبيع الشاي للناس من مختلف الأعمار والأجناس والطبقات. كان بين زبائنها عمال وطلاب ورجال أعمال وسائقين وباعة متجولين وسياح ومتسولين. كانت تتحدث معهم بلطف واحترام، وتسمع قصصهم ومشاكلهم وآمالهم وأحلامهم. كانت تضحك معهم وتبكي معهم وتنصحهم وتواسيهم. كانت تشعر بأنها تقدم خدمة مفيدة ومهمة للمجتمع. كانت تحصل على ربح جيد من بيع الشاي، وكانت تستطيع توفير النقود لأسرتها وأطفالها. 

لكنها كانت تشتاق إلى التدريس وإلى زملائها وإلى طلابها. كانت تتذكر الأيام التي كانت تقف في الفصل، وهي تشرح الدروس وتطرح الأسئلة وتصحح الإجابات. كانت تتذكر الابتسامات والتشجيعات والشكرات التي كانت تحصل عليها من الطلاب ووالأهالي والمدير. كانت تتذكر النجاحات والتقدمات والتحسنات التي كانت تشاهدها في الطلاب. كانت تتذكر الأمل والحلم والطموح الذي كانت تزرعه في نفوس الطلاب. 

وفي يوم من الأيام، حدث شيء غير متوقع. جاء إلى مكانها في السوق طالب قديم كانت تدرسه في المدرسة. كان اسمه مانديلا، وكان ذكيا ومتفوقا ومحبوبا من قبل الجميع. كان قد تخرج من المدرسة ودخل الجامعة، وكان يدرس الهندسة. كان يمر بالسوق لشراء بعض الأشياء، ولما رأى المعلمة وهي تبيع الشاي، تفاجأ وفرح. تقدم إليها بسرعة، وقال لها بصوت مرح: "مرحبا، يا أستاذة. كيف حالك؟ أنا مانديلا، طالبك السابق. هل تتذكرينني؟" 

نظرت إليه بدهشة وسعادة، وقالت له بصوت حنون: "مرحبا، يا مانديلا. بالطبع أتذكرك. كيف لا أتذكرك؟ كنت من أفضل الطلاب في الفصل. كيف حالك؟ ماذا تفعل؟" 

قال لها بفخر: "أنا بخير، الحمد لله. أنا أدرس الهندسة في الجامعة، وأنا في السنة الثانية. أنا أحب دراستي، وأنا أحلم بأن أصبح مهندسا ناجحا ومبدعا. أنت من ألهمتني لأختار هذا التخصص، يا أستاذة. أنت من علمتني الرياضيات والفيزياء والكيمياء بطريقة ممتعة ومفيدة. أنت من زرعت في نفسي الحب للعلم والمعرفة. أنت من شجعتني على الاجتهاد والتفوق والابتكار. أنت من أعطتني الثقة والمهارة والقدرة. أنت من جعلتني أنا". 

ابتسمت له بحنان، وقالت له بتواضع: "شكرا لك، يا مانديلا. أنا سعيدة جدا بسماع هذا منك. أنا فخورة بك وبإنجازاتك. أنت من جعلتني أنا". 

ثم سألته بقلق: "ولكن ماذا تفعل هنا في السوق؟ هل تحتاج إلى شيء؟ هل أستطيع مساعدتك؟" 

قال لها بدهشة: "لا، لا أحتاج إلى شيء. أنا فقط أمر بالسوق لشراء بعض الأشياء. ولكن ماذا تفعلين أنت هنا في السوق؟ هل تعملين هنا؟ هل تبيعين الشاي؟" 

أجابته بحزن: "نعم، أعمل هنا. نعم، أبيع الشاي. هذا هو عملي الجديد. تركت العمل كمعلمة، لأنني لم أستطع تحمل الظروف الصعبة والرواتب المتأخرة والمنخفضة. اضطررت إلى البحث عن عمل آخر يوفر لي دخلا أفضل وأسرع. اخترت العمل في السوق، لأنه مكان حيوي ومزدهر ومربح. أبيع الشاي للناس، وأحصل على النقود، وأعيش بها". 

قال لها بتعجب: "ولكن كيف يمكنك أن تتركي التدريس، وهو مهنتك وشغفك وموهبتك؟ كيف يمكنك أن تتركي الطلاب، وهم أبناؤك وتلاميذك ومستقبلك؟ كيف يمكنك أن تتركي نفسك، وهي المعلمة والمربية والقدوة؟" 

أجابته بصدق: "لم أترك التدريس، ولم أترك الطلاب، ولم أترك نفسي. التدريس ما زال في قلبي، والطلاب ما زالوا في ذاكرتي، ونفسي ما زالت في روحي. أنا ما زلت معلمة، ولكن في مكان آخر وبطريقة أخرى. أنا أعلم الناس كيف يشربون الشاي بطريقة صحية وممتعة. أنا أتحدث معهم عن حياتهم ومشاعرهم وآرائهم. أنا أستمع إلى قصصهم وأنشر بينهم العلم والثقافة والأخلاق. أنا أساعدهم على حل مشاكلهم وتحقيق أهدافهم وتحسين حالهم. أنا أربيهم على الصبر والشكر والتفاؤل. أنا أنشئ بينهم روابط من المحبة والتعاون والتسامح. أنا أعلمهم أن الحياة ليست مجرد كسب النقود والمال، بل هي أيضا كسب العلم والمعرفة والحكمة". 

قال لها بإعجاب: "أنت رائعة، يا أستاذة. أنت حقا معلمة في كل مكان وبكل طريقة. أنت تفعلين عملا نبيلا ومهما للمجتمع والإنسانية. أنت تستحقين كل الاحترام والتقدير والثناء. أنا ممتن لك جدا على كل ما فعلتيه لي ولغيري من الطلاب. أنت تمثل النموذج الأمثل للمعلم المتفوق والمبدع والمخلص. أنا أحبك كثيرا، يا أستاذة". 

قالت له بمودة: "شكرا لك، يا مانديلا. أنت كريم، يا بني. أنا ممتنة لك أيضا على كل ما فعلته لي ولغيري من المعلمين. أنت تمثل النموذج الأمثل للطالب المتفوقح والمبدع والمخلص. أناح أحبك أيضا، يا مانديلا". 

ثم قالت له بدعابة: "ولكن لا تنسى أن تشرب الشاي، يا مانديلا. الشاي ينشط الجسم والروح. الشاي يسعد القلب والعقل. الشاي يجعل الحياة أجمل وأسهل. الشاي هو العلاج الأفضل لكلح الهموم والمشاكل. الشاي هو الصديق الأوفى والمخلص". 

ضحك مانديلا بصوت عال، وقال لها بمرح: "حسنا، يا أستاذة. سأشرب الشاي، ولكن بشرط. أن تشربي معي أنت أيضا. أن تجلسي معي هنا على هذه الطاولة، وأن تتحدثي معي عن كل شيء. أن تشاركيني ذكرياتك وخبراتك وطموحاتك. أن تكوني لي معلمة وصديقة وأما في آن واحد". 

ابتسمت له بود، وقالت له برضا: "حسنا، يا مانديلا. سأشرب معك الشاي، وبدون شرط. أنا سعيدة بمجرد أن أكون معك، وأن أراك سعيدا. أنا موافقة على أن أكون لك معلمة وصديقة وأما في آن واحد". 

وهكذا جلسا معا على الطاولة، وشربا الشاي، وتحدثا عن كل شيء. وكانا سعيدين ومبتهجين، وكأنهما في عالم آخر. وكان الناس ينظرون إليهما بإعجاب واحترام، ويقولون في أنفسهم: "هذه هي المعلمة والشاي".

إعلان
مساحة إعلانية - 728 × 90 بكسل
التصنيف: قصص
الوسوم:
قصصادوارد